خطوةٌ جديدة وأنا الآن أمام عسكري أسود يسدُ طريقي وزميله الآخر على يمينه في مواجهتي. إنها فرصةُ العمر بالنسبة لي : لو أكلتُ العسكري الأسودَ سيتغير مساري إلى مسارٍ جديد وسيصفق لي الجيش الأبيض وستلتفتُ لي الطابية وسيغار الحصان ويبتسم الوزير وتحلو الدنيا في عيني..
لكن لحظة واحدة ، ما الذي يمنع هذا العسكري الأسود من أن يقوم بنفس الشيء ؟ ، ينفيني إلى خارج اللوحة. إلى العراء المجهول الذي لا نعرف عنه شيئا ؟ بدا لي الوضع دقيقاً ، إما أن أفوزَ بكلِ شيءٍ أو أخسرَ كلَ شيءٍ. يجبُ أن أتحركَ الحركةَ الصحيحةَ في الوقتِ المناسب. عند هذه اللحظةِ أدركتُ الحقيقةَ الثالثة : أنا لا أفعل شيئاً من الأساس ! لا أنا ولا أيَّ قطعةٍ هنا تحركُ نفسَها بنفسها..
تجمدت لفترة أمام العسكري الأسود فلا هو أطاحَ بي ولا استطعتُ أنا الاقترابَ منه. ذلك لأن هناك أموراً مهمةً كانت تدورُ في الجانبِ الآخر من اللوحة. لقد مات وزيرنا وهناك الأسوأُ : إن طابيتي الحبيبة مهددةٌ بالفناء والحصانُ الأخرق تركها وهرب بنفسه.. تمنيتُ أن أتحرر من مربعي .. أن أهزَّ اللوحةَ .. أن أكسِر كلَ الرؤوس السوداء ، لكن قوانين اللعبة لا تتيح لي إلا حركة واحدة : أن آكل العسكري الأسود وحتى هذه لا أملك تنفيذَها. ولا أدري إن كان سيأكلني هو أولاً. إن الجيشَ الأسودَ اللعين ينوي أن يطردنا من الجغرافيا ولن يتورعَ عن مسحِ تاريخنا أيضاً لو أُتيحتْ له الفرصةُ.. ولا يدري أحدٌ منا لمن ستكون الحركةَ الأخيرة في هذه اللعبةِ العجيبة.
هناك حركاتٌ تحدث في الناحية البعيدة ولا أراها من هنا. لو كان الخيار بيدي لرفضتُ اليمينَ واليسار واخترتُ مكاني في الوسط. ولو خيروني أيضاً لرفضت – طبعا -ً أن أكون أضعفَ من في الجيش. لكن هذا كله فات أوانه. إن اللُعبةَ توشك على الإنتهاء.
أخيراً أكلت العسكري الأسود. إن الأمر ليس جيداً كما كنت أتصور. فأنا الآن تقدمتُ كثيراً في أرض العدو واحتمالات الخطر زادت. إن جيشَنا يتدهورُ بسرعةٍ وكلُ ما يفعله هو الهروب وتقليل الخسائر فكيف سيحميني ؟ وهل يهتم أحد في الجيش بعسكري لا قيمة له ؟
كما توقعت تماماً ، جاء فيل أسود واتخذ موقعاً يتيح له أن يأكلني في الحركة القادمة. قررت ألا أقلق وألا أفقدَ تماسكَ أعصابي. إن الأمور التي ستحدث كلها هي نتيجةٌ لقوانينَ ومعادلاتٍ مكتوبةٌ في صحائف القدر ، والأقلام التي كتبتها رُفعت منذ زمن طويل.. ولا يمكن تعديلها ولا حتى الإطلاع عليها. ما عليَّ إلا الإنتظار.
ثم حدث مالم أتوقعه. لقد تحركت الطابية وحمتني من الفيل الأسود وأنقذتني من الهلاك. ألم أقل لكم أني أحب هذه الطابية. أهربُ إلى المربع التالي.. المربع قبل الآخير في اللوحة.. والطابية من خلفي تحميني. هنا ارتجت اللوحة وارتجف الوزير الأسود وأُلقي الرعب في قلوب الجيش الأسود كله دفعةً واحدة. لم أفهم ما حدث .. لكن الطابية صاحت من بعيد : « استعد يا حبيبي .. ستتَرقى وتكونَ وزيرَنا ! ». هل قالت يا حبيبي أم أني أتخيل ؟ ثم ما معنى أن أتحولَ من عسكري تافهٍ إلى وزير ؟ هل سيغيرُ هذا من وضع جيشنا المنهار ؟ نظرت حولي وعرفت لماذا ارتجف الأعداء.. إن ظهورَ وزيرٍ أبيض في هذا المكان وهذا التوقيت يعني أن نهايتهم ليست إلا مسألةَ وقت !
هذا إذن ما كان يخفيه لي القدر.. أن أخطوَ الخطوة الكبرى إلى المربع الأخير وأن تصفقَ كلُ القطعِ البيضاء فرحاً.. حتى الحصانُ اللعين أشار لي بيده ليهنيني .. لعلي بالغتُ قليلاً في عداوتي له.. إنه يبدو مختلفاً لكنه منَّا على كل حال..
خلعتُ لباس العساكر وارتديتُ حلة الوزير الأبيض والتصفيقُ لا يزال مستمراً.. والوزير الأسود يكادُ يستسلم من الرعبِ ، فأنا أهدد مملكته كلها وطبقاً لقواعد اللعبة فالأمرُ محسومٌ.. خمسُ حركاتٍ فقط يستطيعون القيام بها ثم تزول دولتهم البغيضة.. ومن سيقوم بهذا ؟ إنه أنا العسكري البسيط الذي كان يتصور نفسه هالكاً مع كل حركة.. ستكون لي الحركة الأخير وسيكون لدي القدرة على التنقل لأي مكان.. سأعود إليك يا طابيتي حالما أنتهي من الأعداء.. أنت حميتني حتى وصلتُ إلى كلِ هذا.. سأعود بجوارك لنبدأَ قصةَ حبِّنا .. لستُ واثقاً لكني أتمنى ذلك…
* * * نظر (عم سيد) إلى الساعة ثم اقترب من شاشة التلفزيون وأطفأه وهو يقول بأدب مصطنع : « أنا أسف يا أساتذة ، لدي تعليمات من صاحب القهوة بألا نفتح بعد الواحدة صباحاً ». لم يكن في القهوة سوى رجلين يجلسان على طاولة واحدة وأمامهما لوحة الشطرنج .. قام الأول ووضع في يد (عم سيد) بعض الجنيهات ، ثم قام الآخر بتثاقل وهو يقول : »لو استمرَ اللعب ، كنتُ سأفوز عليك ».. هز الأولُ كتفَه بلا اكتراثٍ وقال وهما يغادران : »لقد قلتُ لك في البداية أني مجهدٌ من العمل ولا أستطيع التركيز ».. أغلق عم سيد القهوة وأطفأ الأنوار وأغلق الباب الحديدي.. وبقيت لوحة الشطرنج كما هي على الطاولة .. والعسكري الأبيض – الذي أصبح وزيراً – لا يزال واقفا في الصف الأخير .. والظلام الرهيب يطبع بصمته على كل شيء
قصة قصيرة صدرت بجريدة الاهرام وعدة مواقع الكترونية لصاحبها معاد رياض الذي نشكره بالمناسبة على موافقته بنشرها بموقع مراكش إيشيك