أبطال العالم في الشطرنج: إمانويل لاسكر Emanuel Lasker

« سلسلة مفالات بقلم الاستاذ سمير منصور أنقلها لأبنائنا للتعرف أكثر على أبطال الشطرنج العالمي وبعض ضروف نشأتهم »ابطال العالم في الشطرنج

امانويل لاسكر Emanuel Lasker

بقلم : سمير منصور


إن الملاحظة التي تلفت الانتباه بشده أكثر من غيرها وبكثير من الدهشة والاستغراب هي أن الأبطال الكبار في الشطرنج أمثال شتانيتز وبيلسبوري وتشيجورين وماروكزي وجانووسكي كانوا يلعبون أمام لاسكر وكأنهم منومون مغناطيسياً  » هكذا تحدث جورجي ماركو – أحد لاعبي الشطرنج المعاصرين للاسكر – عن واحد من أعظم ثلاثة لاعبي شطرنج في التاريخ على الإطلاق ( لاسكر ، كابابلانكا ، أليخين ).
وإذا كان لكل واحد من هؤلاء الخارقين الثلاثة أسلوبه المميز في طريقة اللعب فإن لاسكر كان الأميز دوماً في الربط بين الحاجة الماسة للفوز وتجنب الخسارة في كل نقلة من نقلاته وهو يلعب على الرقعة . فتجده من النقلة الأولى شديد الإتقان لفن التمركز وبارع التخطيط في المناورات ومتفهم بعمق لإستراتيجية فن التكسير ، ومستوعب لأبعاد الاشتباك الذي كان ينفذه بمهارة فائقة تكشف في نهاية التشكيل جمالية الفكرة وروعة الوصول للهدف . إن أسلوب لاسكر بمختلف أفكاره وخططه ومناوراته يعد أساساً متيناً للشطرنج المنهجي الحديث بكل أبعاده التكتيكية والإستراتيجية والموقفية والديناميكية !!
ولا عجب في ذلك وهو الذي كان سابقاً لعصره في الكثير من الأفكار النيرة والتي غيرت مسيرة الشطرنج من لعبة رومانسيه هدفها التسلية والإثارة إلى ظاهرة علمية تستحق التحليل الرياضي واكتشاف المنطق الذي يصنع جمالياتها وهو ما أيدته برامج الثورة الالكترونية في أواخر القرن العشرين ، أي بعد لاسكر بقرن من الزمان تقريباً !!

ولد إيمانوئيل لاسكر في 24 ديسمبر عام 1868 في مدينة برلين. ومنذ نعومة أظافره كان الطفل لاسكر يتمتع بموهبة خاصة بالرياضيات والتي كان يتفوق فيها – وهو على مقاعد الدراسة – على من تجاوزوه في العمر بسنوات عديدة . وحتى سن العاشرة من عمره لم يكن لاسكر يعرف شيئاً عن لعبة الشطرنج إلا أن أخاه الوحيد  » بيرثولد  » والذي كان يكبره بخمسة سنوات كان يمارسها في أندية الشطرنج التي كانت تنتشر في برلين بكثرة . ولضيق وقته فكر  » بيرثولد  » أن يعلم أخاه الصغير لاسكر كيفية لعبها ليتمكن من ممارستها معه في البيت ، ولم يتردد لاسكر في قبول عرض أخيه الوحيد خاصة وأن مربعاتها الهندسية أثارت لديه الكثير من الرؤى لأبعاد هذه المعجزة الهندسية ! يقول لاسكر بشأن ذلك :  » لقد كانت مشاهدتي الأولى لرقعة الشطرنج بين يدي أخي برثولد – وهو يعلمني كيفية لعبها – كفيلة بأن تجعلني أبحر في محيط لا محدود من الاحتمالات الرياضية الجميلة لا أعود منه أبداً !  » أجل …. لم يعد لاسكر من ذلك المحيط الجميل الذي آسره وقضى كل حياته ذات الثلاث والسبعون عاماً وهو يبحث عن كنوزه .

ويوماً إثر يوم كانت معرفة لاسكر بالشطرنج تترسخ أكثر فأكثر واجتهد كثيراً في البحث عن أهم الروابط والمفاهيم التي تحكم منطق أللعبه الذي يتجه دائماً نحو تحقيق الهدف الأعلى ( الكش مات ) ! ولم تعجبه كثيراً طريقة ممارسة الشطرنج في عصره فتمرد على كثير من الأفكار السائدة واتهمها بالجمود واستخدم الرياضيات لقياس القيمة النسبية للقطع حسب إحداثياتها على الرقعة وبرهن في كثير من أدواره بأن تضحية بيدق مقابل كسب نقلتين هي صفقة رابحة وأوجد علاقات عامه لذلك ، وأدخل لأول مره مفهوم  » المؤثرات النفسية  » في علم الشطرنج وكان يؤمن بأن الرياضيات لها علاقة وثيقة مع منطق اللعبة خارج نطاق الحسابات المطلقة وهو ما ثبت فعلياً عبر أبحاث متقدمه لمعاهد الرياضيات العليا بكاليفورنيا في أواخر عام 2003 م . إن بصيرته الثاقبة وتجديداته الأصيلة في أساليب اللعب جعلته يبهر العالم بأدوار مدهشه كانت تنفذ بأسلوب كان يبدو بمنتهى الغرابة لجيله المعاصر ، فالتضحيات مثلاً كانت تتسم في زمانه بالمغامرة والإثارة على الأغلب ، إلا أن تضحيات لاسكر كانت تتميز بالنقاء وبعد النظر والرؤية الثاقبة لما سيجري على الرقعة بعد (20) نقله في بعض الأحيان !!

لقد ظل المشروع العظيم بتطوير الشطرنج وتحريره من التخبط الرومانسي هاجساً له وهدفاً لا يتنازل عن بلوغه، حتى حصل على لقب أستاذ في الشطرنج عام 1889 وكان هذا دافعاً له ليشارك في أول بطولة دولية له في نفس العام في أمستردام بهولندا وحصل فيها على المركز الثاني برصيد ( 6 ) نقاط من أصل ( 8 ) أدوار وفي هذه البطولة فاجأ الجميع بأفكاره الجديدة وبأسلوب غريب على الرسلاء أليف لمنطق الشطرنج . ورغم انهماكه في التحضير لرسالة الدكتوراه في الرياضيات اندفع لاسكر بأفكاره الثوريه ليشارك في بطولات دولية أخرى وفي شتى أنحاء القارة الأوروبية وفي هذه البطولات سقطت أمامه أسماء لامعة كانت تعتبر في نظر جماهير الشطرنج الأوروبية أساطير لا تتكرر مثل الأستاذ تاراش وجانووسكي وغيرهم ….

ولان أهداف مشروعه كانت بلا حدود، فقد سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1892 ليستعد هنالك لمواجهة بطل العالم وليام شتانيتز والذي لم يكن هنالك أحد يجرؤ على مجادلة أفكاره الخاصة بالشطرنج . وفي عام 1894 أنجز لاسكر حلم حياته ووصل إلى مواجهة شتانيتز أخيراً على بطولة العالم ، من خلال بطولة تعتبر الأهم في تحويل لعبة الشطرنج إلى مسار المنهجية الأصيلة على يدي بطل العالم الجديد والمجدد إيمانوئيل لاسكر بعد قرون من تخبطها في العشوائية والتضحيات غير النقية واللامنهجية ! لقد كان لانتصار لاسكر الشاب بأفكاره الجديدة على شتانيتز الخبير والعنيد بأفكاره الكلاسيكية المتحفظة دوياً صاعقاً على جماهير اللعبة في شتى أنحاء العالم ! ( 10 ) نقاط للاسكر مقابل ( 5 ) نقاط شتانيز . لقد كان مجرد التفكير في إزاحة شتانيز العنيد عن بطولة العالم في ذلك الوقت يعتبر ضرباً من العبث وقد علق لاسكر إثر انتصاره على شتاينز بمقولة بسيطة وشهيرة .  » أنا لم أنتصر على شتانيتز … المفاهيم الجديدة للشطرنج هي التي انتصرت !!

ومنذ انتزاعه لبطولة العالم من شتانيتز ظل لاسكر متربعاً عل عرش اللعبة طوال ( 27 ) عاماً قدم خلالها ثروة هائلة من الأفكار الجديدة المتجددة والتي أثرت في أساليب جيل كامل من الأبطال الكبار الذي تتلمذوا على أصالة الفكر الذي ابتدعه لاسكر وكان أشهرهم المعجزة بوبي فيشر ! . توفي لاسكر في مدينة نيويورك في 13 شباط عام 1941 دون أن ينتبه إليه أحد وفي خضم انشغال العالم بأحداث الحرب العالمية الثانية ، كما لو كان نسياً منسياً . ونعاه الأستاذ الكبير روبين فاين في أحدى الصحف بكلمة بسيطة الشكل عميقة المعنى ، تقول :  » لم يفكر لاسكر يوماً بتأسيس مدرسة تشرح أفكاره للأجيال القادمة إلا أن كل الأبطال الكبار الذين ظهروا بعده تتلمذوا على أدواره العظيمة وفكره العميق!!

Avec mots-clefs , .Lien pour marque-pages : permalien.

Les commentaires sont fermés.